شد الرباط على مُجيزي الاختلاط
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وبعد:
فقد خلق الله الذكر والأنثى وجعل قلوبهم مرفرفة تطير إلى ما يخالفها في الجنس والشكل والهيئة فنشأت الجاذبية التي لا تدفع ولا تقهر إلا بالجهاد المرير .
وليس هذا شذوذا ولا معصية بل إن النفوس جبلت عليها كما جبلت الأرض على حب الماء !
فإن المرأة للرجل، وإن الرجل للمرأة سكن ومودة ورحمة وألفة، ولا يتخلى عن هذا الشعور إلا من خالف الطبيعة البشرية وفقدها حسا أو معنى .
فآدم وحواء، ويوسف وامرأة العزيز، والنبي صلى الله عليه وسلم وعائشة .. يؤكد أن الأنبياء أنفسهم عاشوا في ظلال هذه الأجواء أو تعرضوا لها مع بياض صفحتهم كما في حالة يوسف عليه السلام .
لذلك كانت الرهبانية ابتداعا في الدين وبعدا عن الشريعة ورغبة عن سنة الأنبياء فشرع الله الزواج ليدوم التآلف على جِسر طاهر نقي لا يَعترض عليه إلا فاقد للعلم والعقل .
وهذا تهذيب رباني لميل الذكر إلى الأنثى وسلوك قويم يحفظ غرائز الناس ويرفعها عن مشابهة البهائم .
ولم يكتف الشارع الحكيم بهذا فإن الزواج لا يتسنى لكل أحد، وإن تسنى فإن النفوس قد تزيغ إلى المعصية وترنوا إلى الشهوات فجاء بضوابط يضمن لها عيشا رغَدا وحياة طيبة !
فمَنع الاختلاطَ وأمَر بغض البصر وسترِ العورة والبعدِ عن الفتن و حرَّم سماعَ المعازف وكل هذا مما يحفظ نظام الأسرة ، وإذا كان هذا النظام المصغر سالما معافى فإن المجتمع بأكمله يكون بأبهى حُلله وأجمل صُوره .
ولو فحَصنا سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرة صحابته المُبجلين رأينا الهديَ القويم والصراطَ المستقيم فيظهر لنا عند التأمل سوادَ صفحة من يدعو إلى مخالفتهم وتنكبِ طريقهم والتشبهِ بعدوهم .. على جهل منه أو مكر .
هذه الشرذمة لا تنطلق من الدين انطلاق السلف الصالح، وانطلاق المُسَلم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل هي تسير مع شهوتها وتتبع هواها فإذا ما اعترض معترض على أحدهم فتح المصاحف والصُّحُف ليجد دليلا يسنُده أو آية تنصُره فيُخادعه شيطانه ليخدع نفسه ويخدع الغِر الجاهل .
هذه الشرذمة عند سَبْر تاريخها وتنخيل منهجها وغربلة منابعها يتضح لك ما وراء الأكمة فتشاهد قبحَ الأقنعة التي ظهروا بها . الملمسُ ناعم والسمُ قاتل .
وكأن الله حصر بهم العقل والفهم، فما تشاء من الدعاوي الطنانة والكلمات الرنانة من الحوار ، والرأي والرأي الآخر، ومائدة التفاوض، وسماحة الإسلام، ونبذ التشدد، وقبول الآخر، والوسطية السمحة، والمنهج المعتدل .. وغير ذلك مما تُضلل به العامة .
وسنقف اليوم مع آفة عظيمة تتبعها آفات جسيمة لا يمكن انفصامها عنها : ألا وهو الاختلاط .
فإن الاختلاط شرٌ يجُر وراءه شُرورا من أمراض القلوب وزنى الأبصار والفروج، وهتك الحرمات وكشف العورات ، وتفكك الأسر، والانصياع وراء المعاصي، وغير ذلك مما يملأ الأسماع ويعرفه المُوالي والمُعادي .
وهو علامة انحراف عن الجادة بل علامات، وإن فُشوَّه قادر إلى الإطاحة بالدول العظمى لما يترتب عليه من الانحطاط الأخلاقي والفوضى الجنسية .
فإذا رأيت أمة تدعو إليه وتنادي به فظهر على وجهها فاعلم أن ذلك بداية لسقوطها ، وإذا رأيت أمة تنكره وتدفعه وتنهى عن أسبابه فقّلَّ أن تُغلب وتقهر إلا أن يريد ربك .
وقد انتشرت هذه الآفة في المجتمع المسلم والمحافظ انتشارا ينذر بالخطر، ويهدد كيان الإسلام، وينذر بالوباء العظيم، فإن أعداء الدين صادموا الإسلام وجها لوجه فتكسرت سيوفهم وتفرقوا شذر مذر حتى إذا مر الزمان وتعاقبت الأجيال التفوا حول الجبل وبثوا أفكارهم بين أبناء الإسلام فصادفت أفكارُهم قلوبا خالية وصدورا جوفاء فتشربوا هذه الفتنة وبثوها بينهم دعوة وتطبيقا، وما يزال الضرب على هذا الوتر حتى يومك هذا ، ويظهر بمظاهر تُحيِّر الألباب وتجعل الحليم حَيْرانا .
والأخطر من هذا والأنكى أن يُربط رقي المجتمع وتحضره به، فتَصْدع هذه الفتنةُ قلوب المريضين من أبناء الإسلام فينادون به ويَجْلِبونه بخيلهم ورَجِلهم لأن هدفهم الأسمى مساواةُ المجتمعات المتقدمة والسيرُ في ركابها وإن كلَّف ذلك ما كلَّف، ولو كان على حساب الدين !
فأخرجت لنا هذه الفتنة زبَدا من أدعياء الدين يتكلمون بلسانه وينادون من ورائه وكأنهم خلفاء الله في الأرض ومنقذو البشرية والسابحون بين الغرقى !
هؤلاء الدعاة الأدعياء تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم إلا أنهم متهافتون تعرفهم بسيماهم فلا يستحيون من الله ولا من خلقه حين يظهر أحدهم ليتكلم في الدين ويبين الشريعة داعيا إلى الاختلاط بقوله أو فعله، فتجده متحدثا -وأمامه الرجال والنساء الكاسيات العاريات- عن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم !!
فإن لم يكن هذا استهزاء بالله ورسوله والشرع فما هو الاستهزاء ؟
أو محاضرا في الدين وأمامه مذيعة متبرجة قد خرج صدرها وبدت مفاتنها تتمايس بعينها وهو جالس لا يغض بصرا ولا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا وإنا لله وإنا إليه راجعون .
فإن كان هذا من أدعياء الشريعة فما بالك بغيره من العلمانيين ومن لَفَّ لَفَّهم ، ومن ضعفاء الدين والنفوس ؟
هؤلاء الهادمون للشريعة قد أضلهم الله .
أفعميت قلوبهم عن الشريعة ومقاصدها وقد قال الله تعالى " وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب " ؟
وجعل النبي صىلى الله عليه وسلم صفوف الرجال في الصلاة في الأمام وصفوف النساء في الخلف وقال : خير صفوف الرجال أولها وشرها ءاخرها ليحث على التباعد ، بل أمر الرجال بالتريث وعدم العجلة في الانصراف حتى يذهب النساء فلا يختلط بعضهم ببعض وقال " عليكن بحافات الطريق" فكانت المرأة من شدة لصوقها بالجدار يتعلق به ، بل جعل للنساء بابا خاصا بهن يدخلن به المسجد كما في أبي داود !
فإذا كان هذا في أظهر الأماكن وأشرفها وأنقاها وحين الوقوف بين يدي الله ، فكيف بالجامعات وقاعات المحاضرات والمطاعم وسواها ؟
أفصُمت آذانهم عن أخبار الاغتصاب والتعدي والتحرش !
ألم يُبصروا لباسَ نساءِ اليوم المُتهتك إلا من رحم الله منهم وقليل ماهم !
فلو كان لديهم فقه وعلم لحّرَّموه وإن لم يرد بذلك نص بل لما ينتج عنه من الفواحش والمصائب .
قال تعالى : يا أيها الذين ءامنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر .. "
فكيف وما سبق من النصوص التي تظهر لنا أن الشرع لا يمكن بحال من الأحول أن يجيز هذا المنكر .
ألم يسمعوا شكاوي شباب اليوم من الفساد الذي يرونه في الجامعات والشوارع ؟
أليس الأليق بهم والأولى أن يقطعوا دابر هذا الفتن ويراسلوا من لهم القرار بتقوى الله في هؤلاء الشباب ؟
وليتهم يجيزوه مع الأمر بلبس الحجاب والعفاف وغض البصر وحرمة التزين والتعطر والحذر من فتنة النساء !
ولكن هو نظر من زاية المصلحة التي يريدون غرسها في قلوب المساكين .
ولديهم شبه واهية يطرحونها كطواف الرجال والنساء حول الكعبة وأننا لا نحرمه في الأسواق أيضا ، فلماذا لا يكون حلالا في كل أحواله ؟!
والجواب عليهم : أن المشقة ظاهرة في فصل الرجال عن النساء في الطواف والله أمر بالتقوى ما استطعنا ، وقد رخص الشرع في هذه الحالة، فلا نعترض عليه لأنه هو الذي نهى عنه في عموم أحواله ورخص في هذه الحالة بعينها، ونحن محكومون بالشرع !
ومع ذلك فلا يجوز للمرأة أن تزاحم الرجال في الطواف، ولا يجوز للرجل أن يزاحم النساء، وقد استحب بعض الفقاء طواف المرأة بالليل لأنه أعف وأستر .
وكانت عائشة رضي الله عنها تطوف بعيدة عن الرجال فقالت امراة لها : تعالي نستلم الحجر!
فقالت : انطلقي أنت، وأبت أن تذهب، هذه نسوة رسول الله ولكم فيهن أسوة حسنة .
وإليكم امرأة موسى عليه السلام حين قال الله على لسانها : " لا نسقي حتى يصدر الرعاء "، فإنها لم تزاحم الرجال في سقي الشاء بل انتظرت حتى ينتهوا ويصدروا عن الماء، ثم إنها جاءته تمشي على استحياء لتدعوه لأبيها، فأين حياء المرأة وعفافها من معافسة الرجال ومخالطتهم والسعي وراء ذلك !
وإذا كانت الكعبة واحدة ومسجد الحرام واحدا ومع ذلك يتورع الصالحون والصالحات عن المخالطة ، فكيف تسمح نفوس هؤلاء المرضى بإجازتها في كل حين في الندوات والمحاضرات !! .
بل يستفيد الفقيه من هذا أنه لا بأس من الاختلاط غير المقصود -مع احتشام المرأة- في الأسواق والمستشفيات وما شابه !
وحتى تتعرف على خطئهم فأن مسألة السوق والمستشفى والطواف هو اختلاط لا يترتب عليه الجلوس والنظر المتتابع وما هو إلا حينا بعد حين، فكيف نأخذ دليلا منه على جواز الاختلاط المَقرُون بالجلوس والمُصاحَب بالفتيات اللاتي لم يحتشمن وفي كل حين ومرة ؟
ويحتجون بأن الطالب إذا جلس على مقعد الدراسة لم يعد يشغله غير العلم، وكلنا يعلم بطلان ذلك فإن كان الشيطان لا يتركنا في الصلاة فكيف بغير الصلاة ؟
وهذا فعل النبي صلى الله عليه فقد قالت النساء له : غلبنا عليك الرجال ، فاجعل لنا يوما من نفسك . فوعدهن يوما لقيهن فيه ، فوعظهن وأمرهن . رواه البخاري .
ولم يقل تعالين في مجلسي مع الصحابة !!
وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أفقه نساء العالمين لم تكن تحدث أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلا من وراء حجاب ؟
والدليل الواضح والصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم : إياكم والدخول على النساء ، فقال رجل يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال الحمو الموت .
فهذا الحديث يرشد إرشادا عظيما إلى خطورة الدخول على النساء ويقرنه بالموت خاصة مع الحمو ، قريب الزوج أو الزوجة فمن يفر إلى الموت غير الذي ختم الله على بصره ؟
وهذا نهي عن الدخول فكيف بالمزاملة والمضحاكة والمؤانسة ولا حول ولا قوة إلا بالله !
وأحاديث وآيات كثيرة وأدلة نقلية وعقلية صريحة وظاهرة يضيق الورق بتسطيرها وتحبيرها وما يعقلها إلا العالمون
ختاما : إني لأعجب من أن يعلم فساد هذا الأمر ويذوق ضرره الغربيون فيبدؤوا بعضهم بفصل الرجال عن النساء في المدارس تيقنا منهم أن هذا أصلح لهم وأنفع .. وهؤلاء المسلمون يزهدون في هذا الكنز ويُضحون به بثمن بخس تخلفا منهم ورجعية والله المستعان والهادي إلى سواء السبيل .